فصل: مسألة تفسير إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْل والحضِّ على مداومة العمل:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة



.مسألة اختلاف قدر الِإطعام باختلاف البلدان:

في اختلاف قدر الِإطعام باختلاف البلدان سمعت مالكاً يقول: إن أنس بن مالك كانت له مكيلةٌ بالعراق، فأطعم عشرة، ثم جاء هاهنا، يريد المدينة، فكال بها فأطعم عشرين.
قال محمد بن رشد: يريد أنه أطعم بالمدينة عشرين مسكيناً من المكيلة التي كان يطعم منها بالعراق عشرة مساكين، وذلك في كفارة اليمين. وذلك يختلف باختلاف عيش أهل البلد، وذلك حجة لقول مالك في المدونة.
وأما عندنا هاهنا فليكفر بِمدِّ النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ في الأيمان باللَّه. وأما أهل البلدان فإن لهم عيشاً غير عيشنا، فأرى أن يكفروا بالوسط من عيشهم، ولا ينظر في البلدان إلى مد النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ فيجعله مثل ما جعلته في المدينة.

.مسألة تفسير السبع المثاني:

في السبع المثاني قال: وسمعت مالكاً يقول: السبع المثاني أُم القرآن.
قال محمد بن رشد: قول مالك في السبع المثاني هي أم القرآن هو قول جمهور العلماء. وروي عن ابن عباس في قول اللَّه عز وجل: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي} [الحجر: 87]، قال: فاتحة الكتاب. قيل لها ذلك لأنها تُثَنَّى في كل ركعة.
وقد قيل في فاتحة الكتاب: إنها السبعُ المثاني والقرآن العظيم. وذلك مروي عن ابن عباس، وبيِّنٌ من حديث أبَي بن كعب في الموطأ: «أن رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَادَاهُ وَهُوَ يُصَلِّي، فَلَمَّا فَرَغَ مِن صَلَاتِهِ لَحِقَهُ، فَوَضَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَهُ عَلَى يَده، يُرِيدُ الْخُرُوجَ مِنْ بَابِ الْمَسْجِدِ، فَقَالَ: إِنِّي لأرْجُو أن لَا تخْرُجَ من الْمَسْجِد حَتَّى تَعْلَمَ سُورَةً، مَا أنْزَلَ الله في التَّوْرَاةِ وَلَا فِي الإِنْجِيل مِثْلَهَا، فَجَعَلْتً أبْطِئُ فِي الْمَشي، رَجَاءَ ذَلِكَ، ثُمَّ قلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، السّورةَ الَّتِي وَعَدْتَنِي، قَالَ: كَيْفَ تَقْرَأ إِذَا افْتَتَحْتَ؟ قَالَ: بِقَرَاءةِ الْحَمْدُ لِلّهِ حَتَّى أتَيْتُ عَلَى آخِرِهَا، فَقَالَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هِيَ هذِهِ السُّورَةُ وَهِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمُ.» على ما جاء في حديث أبي قال: المعنى في ذلك، أنها تعدل القرآن في الثواب، كما تقول قُلْ هُوَ اللَّهُ أحَدٌ ثلث القرآن في الثواب.
وقد مضى الكلام في معنى ذلك مجرداً في رسم يتخذ الخرقة لفرجه من كتاب الصلاة من سماع ابن القاسم. وقيل لها سبعٌ، لأنها سبع آيات، {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2] آية. {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 3] آية. {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة: 4] آية. {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] آية. {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 6] آية. {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة: 7] آية. {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7] آية. ومن جعل بِاسْم اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيم آية من الحمد، وأوجب قراءتها في الصلاة. وهو مذهب الشافعي لم يعد الَذِينَ أنْعَمت عَلَيْهِم. وباللَّه التوفيق.

.مسألة إقامة قبلة مسجد النبي عليه السلام:

في إقامة قبلة مسجد النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ قال مالك: سمعت أن جبريل هو الذي أقام لرسول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبلة المسجد مسجد النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ مسجد المدينة.
قال محمد بن رشد: يريد بقوله: إنه أقام له قبلة المسجد، أي أعلمه بحقيقة، سمت القبلة، وأراه إياها وذلك واللَّه أعلم حين حولت القبلة إلى الكعبة. وذلك أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أقام بالمدينة ستة عشر شهراً يصلي إلى بيت المقدس، ثم حولت القبلة إلى المسجد الحرام، قبل بدر بشهرين. قال عز وجل: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ} [البقرة: 144] إلى قوله: {فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144]. فتحول رسول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بصلاته إلى الكعبة، وأقام له جبريل قبلة مسجده، وأراه السمت إليها، فقِبلتُه قُبالة الميزَاب، على ما قاله في رسم الصلاة الثاني من سماع أشهب من كتاب الصلاة. ولم يختلف في أن صلاته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ كانت إلى بيت المقدس، حتى حولت القبلة وإنما اختلف في صلاته بمكة قبل قدومه المدينة، فروي أنها كانت إلى الكعبة، وروي أنها كانت إلى بيت المقدس، وأنه كان يصلي إلى بيت المقدس، الكعبة بين يديه وباللَّه التوفيق.

.مسألة ضرب الرجل امرأته:

في كراهية ضرب الرجل امرأته قال مالك: قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ما أُحب أن أَرى الرجل ثامراً فريض عصبه رقبته على امرأته يقاتلها».
قال الإمام القاضي: هي قوله يقتبها أي يكثر منازعتها وضربها وهذا من قول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مطابق لما أنزل الله في كتابه العزيز من قوله: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19] لأن من أكثر من ضرب امرأته لم يعاشرها بالمعروف كما قال الله عزَّ وجلَّ. وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في خطبة بعرفة: «فَاتَّقُوا اللَّهَ في النِّسَاءِ فَإِنَّكُم أَخَذْتمُوهُنَّ بِأَمَانَةِ اللَّهِ وَاسْتَحْلَلْتُم فُرُوجَهُنَّ بِكلِمَةِ اللَّهِ وَلَكُمِ عَلَيْهَنّ أَلَاّ يُوطِئْنَ فُرُشَكُنَّ أَحَداً تَكْرَهُونَ فَإِنْ فَعَلْنَ فَاضْرِبُوهُنّ ضَرْباَ غَيْرَ مُبْرِّحٍ وَلَهُنّ عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنّ وَكِسْوَتُهُنّ بِالْمَعْرُوفِ».

.مسألة تفسير إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْل والحضِّ على مداومة العمل:

في تفسير: إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْل والحضِّ على مداومة العمل وسُئل مالك عن تفسير: {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلا} [المزمل: 6] قال: هي قيام الليل، وهي بلسان الحبشة إذا قام الرجل قالوا: قد نشأ فلان. قال: وحدَّثنا مالك قال أبو هريرة: الغُدُوُّ وَالرَّوَاحُ وَشَيْء مِن الدُّلَج وَالْقَصْدَ تَبْلُغُوا. فقيل له وما المدلج إلى الصلاة؟ يعني صلاة الصبح.
قال محمد بن رشد: قول مالك في ناشئة الليل قيام الليل، مروي عن ابن عباس روي عنه أنَّه قال: نَاشِئَةُ اللَّيْل هِيَ مَا وَرَاءَ الْعِشَاءِ إِلَى الْفَجْرِ، وَأنه قال: الصَّلَاةُ بَعْدَ الْعِشَاءِ نَاشِئَةُ اللَيْل. وروي مثله عن قتادة. وقال مجاهد: ساعة تسجد من الليل فهي ناشئة، وسكت مالك عن تفسير بقية الآية فقوله: {هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا} [المزمل: 6]. تُقرأ على وجهين: وطْئاً وَوِطَاء. فقيل معناه: أَثبت في القلب، وقيل معناه: أَشد في تواطئ القلب. وقيل معناه فراغ القلب. وقوله: {وَأَقْوَمُ قِيلا} [المزمل: 6] معناه وأَصوب قيلًا. وأَصدق في التلاوة. وأَجدر أَلَّا يلبس عليك الشَيطان تلاوتك. قال: {إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلا} [المزمل: 7] أي فراغاً طويلًا لحوائجك. قال: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلا} [المزمل: 8] وقول أبي هريرة: الْغُدُوُّ وَالرَّواحُ وَشَيْء مِنَ الدُّلَج وَالْقَصْدَ تَبْلُغُوا ادأبُوا على هذه الأعمال، وهي صلاة الصبح، وصلاة الضحى والرواح إلى سائر الصلوات في الجماعات، تبلغوا بها وإن قلت إلى ما تريدون من مرضات ربكم، يقول ولا تحملوا على أنفسكم بكثرة العمل فتقطعون عنه. يشهد بصحة قوله قول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَمل حَتَى تَمَلُّوا أكْلُفُوا مِنَ الْعَمَل مَا لَكُم بِهِ طَاقَةٌ» وكان أحبّ العمل إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ الذي يدوم عليه ما حبه، وقال: «إِنَّ المُنبِت لَا أرضاً قَطَعَ، وَلَا ظَهْراً أَبْقَى» والله أعلم.

.مسألة رفع اليدين في الدعاء:

في رفع اليدين في الدعاء قال مالك: رأَيت عامر بن عبد الله بن الزبير يرفع يديه وهو جالس بعد الصلاة يدعو فقيل له: أَترى بذلك بأساً؟ قال لا أرى بذلك بأساً.
قال الإمام القاضي: إجازة مالك في هذه الرواية لرفع اليدين في الدعاء عند خاتمة الصلاة نحو قوله في المدونة لأنه أَجاز فيها رفع اليدين في الدعاء، في مواضع الدعاء، كالاستسقاء، وعرفة، والمشعر الحرام، لأن ختمة الصلاة موضع للدعاء. واختلف قوله في المدونة في المقامين عند الجمرتين، فرآه في كتاب الصلاة من مواضع الدعاء ترفع الأيدي فيهما ولم يره في كتاب الحج الأول من مواضع الدعاء التي ترفع الأيدي فيها. وسئل في رسم يتخذ الخرقة لفرجه من سماع ابن القاسم من كتاب الصلاة عن رفع اليدين في الدعاء، فقال: ما يعجبني فظاهره خلاف لما في هذه الرواية ولما في المدونة وقد يحتمل أن يتأول ذلك على أنه إنَّما أراد الدعاء في غير مواضع الدعاء، ولذلك قال: إِنَّه لا يعجبه رفع اليدين في ذلك.
وقد مضى الكلام على هذه المسألة في رسم المحرم المذكور من كتاب الصلاة وفي رسم شك في طوافه منه وبالله التوفيق.

.مسألة ترك الاهتمام بهَمَّ سَنَةٍ عَلَى يَوْمٍ:

في ترك الاهتمام بما يأتي قال مالك: قال عيسى ابن مريم: لَا تَحْمِلُوا هَمَّ سَنَةٍ عَلَى يَوْمٍ حَسْبُ كُلِّ يَوْم بِمَا فِيهِ.
قال الإمام القاضي: وصية عيسى ابن مريم بما أوصى من هذا حكمة، إذ لا يدري المهتم بما يحتاج إليه في السنة، هل يعيش إلى تمام السنة أم لا؟ فاهتمامه بما يخاف من الموت قبل السنة آكَدُ عليه من الاهتمام بما يحتاج إِليه في السنة وبالله التوفيق.

.مسألة أي المواضع أَفضل من مسجد النبي عليه السلام للصلاة:

في أي المواضع أَفضل من مسجد النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ للصلاة؟ وسُئل مالك عن الصلاة في مسجد النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ أَيّ المواضع أَحبُّ إليك؟ قال: أَمَّا النافلة، فمُصلَّى النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ. وأَما الفريضة، فالتقدم إلى أول الصف أَحب إلي.
قال محمد بن رشد: استحب مالك صلاة النافلة في مصلى النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ للتبرك بموضع صلاته، ورأَى للصلاة في ذلك الموضع فضلاً على سائر المسجد. ومن الدليل على ذلك، «أَنَّ عُتبان بنَ مَالكِ، قَالَ لِرَسُول اللهَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ يا رَسولَ اللَّه. إِنهَا تَكُونُ الظُّلْمَةُ وَالسَّيْلُ وَالْمَطَرُ، وَأَنَا رَجَلٌ ضَرِير البَصَرِ، فَصَلِّ يَا رَسُولَ اللَّهِ فِي بَيتي مَكَاناً أَتَخِذُهُ مُصًلّى فَجَاءَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُ: أَيْنَ تُحِبًّ أَنْ أصَلِّيَ؟ فَأَشَارَ لَهُ إِلَى مَكَان مِنَ الْبَيْتِ فَصَلَى فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.» فإذا كان ذلك الموضع من بيته بصلاة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيه صلاة واحدة أَفضل من سائر بيته، وجب أن يكون الموضع الذي يواظب على الصلاة فيه من مسجده أفضل من سائر المسجد بكثير وإنما قال: إنَّه يتقدم في الفريضة إلى أَول الصف، يريد إلى أَول الصفوف، وهو الصف الأول، لأن فضل الصف الأول معلوم بالنص من النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ، فهو أولى مما علم فضله بالدليل ومُصلى النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ من مسجده هو العمودُ المخلق قاله ابن القاسم في رسم نذر سنه من سماع ابن القاسم من كتاب الصلاة وبالله التوفيق.

.مسألة ما يلزم في التثبت في مسائل الاجتهاد:

فيما يلزم في التثبت في مسائل الاجتهاد وتقديم اجتهاد أهل المدينة قال مالك: وبلغني أن ابن مسعود كان يُسأل عن المسألة فيفكر فيها شهراً ثم قام فقال: اللَّهم إن كان صواباً فمن عندك، وإن كان خطأً فمن عند ابن مسعود يسأل عن الشيء بالعراق، فيقوم فيه، ثم يقدم المدينة، فيسأل، ثم يجد الأمر على غير ما قال، فإِذا رجع لم يحط رحلته، ولم يدخل بيته حتى يرجع إلى ذلك الرجل فيخبره بذلك.
قال محمد بن رشد: المسألة التي فَكّر فيها شهراً ثم أَجاب فيها، فقال ما قال، هي مسألة الرجل يموت عن زوجته قبل الدخول وقبل أَن يفرض لها هل لها مع الميراث صداق أم لا؟ وهي مسألة اختلف فيها الصحابة ومن بعدهم فروي «أن ابن مسعود سُئل عنها فقال: ما سًئلت منذ فارقت النبيّ عَلَيْهِ السَّلَامُ عن شيء أَشد علي من هذه المسألة. سألوا غيري، فَترددُوا فِيها شهراً وقالوا: من نسأل؟ أنتم جلة أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بهذه البلد، فقال: سأقول فيها رأْيي فإن كان صواباً فمن الله، وإن كان خطأً فمني والشَّيطان. أرى لها مهر امرأة من نسائها لا وكْس ولا شطط. ولها الميراث، وعليها العدة. فقال معقل بن سنان وفي بعض الآثار معقل بن يسار وفي بعضها أيضاً فقام ناس من أشجع، فقالوا: نشهد أَن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ قضى فيها مثل الذي قضيتَ في امرأة منا يقال لها: يرْوع بنت واشق، قال فرأيت ابن مسعود لم يفرح بشيء مثل ما فرح يومئذٍ». وقال عبد الله بن عمر، وزيد بن ثابت، لا صداق لها. ولها الميراث على ما وقع في الموطأ من أَن ابنة لعُبيد اللَّهِ بْنِ عمر، كَانَتْ تَحْتَ ابْن لِعَبْدِ الله بْنِ عُمَرَ، فمَاتَ وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا، وَلَمْ يُسَم لَهَا صَدَاقاً فَابْتَغَتْ أمُّهَا صَدَاقَهَا وَهِيَ بِنْتُ زَيْدٍ بنِ الْخَطَّابِ، فَقَالَ لَهَا عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ: لَيْسَ لَهَا صَدَاقٌ، وَلَوْ كَانَ لَهَا صَدَاقٌ، لَمْ تُمْسِكْهُ، وَلَم نَظْلِمْهَا فَأبَتْ أمها أنْ تَقْبَلَ ذلكَ، فَجَعَلُوا بَيْنَهُم زَيْدَ بْنَ ثَابِتَ فَقَضَى أنْ لَا صَدَاقَ لَهَا، وَلَهَا الْمِيرَاثُ. فأخذ مالك والليث بن سعد والأوزاعي بمذهب ابن عمر. وهو قول ابن شهاب ومذهب أهل الحجاز. وأَخذ أَبو حنيفة وأصحابه والثوري والحسن بن حي بما روي عن ابن مسعود، وجاء عن النبي عليه السلام في يروع بنت واشق. واختلف قول الشافعي في ذلك، فروي عنه مثل قول مالك، وروي عنه مثل قول أَبي حنيفة، وذكر المزني عنه أَنَه قال: إِن ثبت حديث يروع، فلا حجة لأحد معَ السنة، وإن لم يثبت فلا مهر لها. ولها الميراث. وقال مسروق لا يكون ميراثاً حتى يكون مهراً يريد والله أَعلم وجوب المهر لوجوب الميراث.
وقد تعلق من ذهب إلى أَن الحق عند الله فيما لا نص فيه من مسائل الاجتهاد. وقد يصيبه المجتهد وقد يخطئه بقول ابن مسعود: هذا إن يكن صواباً فمن الله، وإن يكن خطأً فمن ابن مسعود ولا تعلق له في ذلك، لاحتمال أن يريد إصابة النص إن كان في النازلة نص لم يعلم به، كحديث يروع بنت واشق في نازلتِه. والصواب أَن كل مجتهد مصيب عند الله تعالى.
وقد بينا هذه المسألة بياناً شافياً في كتاب الأقضية من مختصر كتاب الطحاوي في شرح مشكل الحديث والشيء الذي سُئِل عنه بالعراق فقال فيه: ثم قدم المدينة فوجد الأمر بخلاف ما قال، فلما رجع لم يحط رحلته ولا دخل بيته، حتى أتى الرجل، فأَخبره بذلك، هو أَنه سئل عن نكاح الأم بعد الابنة إن لم تمس الابنة، فأَرخص في ذلك فلما قدم المدينة سأَل عن ذلك فأُخبر أن الأمر بخلاف ما قال، وأَن الشرط إنَّما هو في الربائب، لا في أُمهات النساء، فرجع الكوفة، فلم يدخل منزله حتى أتى الرجل الذي رخص له في ذلك، فأمره أن يفارق امرأَته على ما وقع من ذلك في الموطأ وقد روي إجازة ذلك عن علي بن أبي طالب، وزيد بن ثابت. وقال به من شذَّ من العلماء. وله وجهان من التأويل: أَحدهما أن يجعل قوله: {مِنْ نِسَائِكُمُ اللاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} [النساء: 23] عائد على الربائب وعلى أُمهات النساء، بإِضمار أَعني إذ لا يجوز في العربية أَن يكون اللاَّتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ. نعت لأمهات الربائب، وبنات الأمهات، لأن بنات الأمهات مخفوض بالإِضافة، وأُمهات الربائب مخفوض بمن، ولا يجوز أَن ينعت بنعت واحد، ما عمل فيه عاملان. والوجه الثاني أن يجعل قوله: {مِنْ نِسَائِكُمُ اللاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} [النساء: 23] شرط لاتصال الكلام، فيبيح نكاح الأم إذا لم يدخل بالبنت، ويبيح نكاح الربيبة إذا لم يدخل بالأم، فالقياس عليها. وبدليل قوله: {وَرَبَائِبُكُمُ اللاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} [النساء: 23] إذ لا تكون الربيبة في حجره حتى يدخل بأُمها، لأن من ذهب إلى هذا يجعل قوله: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاتِي فِي حُجُورِكُمْ} [النساء: 23] كلاماً متصلًا تاماً، فيصح رد قوله: {مِنْ نِسَائِكُمُ اللاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} [النساء: 23] إِلَى أول الكلام وهو قوله: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} [النساء: 23] أَوْ إِلَيهما جميعاً بإِضمار أَعني على ما ذكرناه. والذي قال به عامة العلماء وفقهاء الأمصار: مالك، والشافعي، وأَبو حنيفة، إِن الأم مبهمة لا شرط فيها، وإن الشرط إِنَّما هو في الربائب، فلا يحل نكاح الأم إذا تزوج البنت، وإن لم يدخل بها هو الصحيح، لِأنَّ الظاهر أن الكلام يتم في قوله: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} [النساء: 23] ويحسن الوقف عليه ثم يبتدأُ بقوله: {وَرَبَائِبُكُمُ اللاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} [النساء: 23] الآية.

.مسألة ما ذكر من خلاء مسجد النبيّ عليه السلام:

في ما ذكر من خلاء مسجد النبيّ عليه السلام قال مالك: بلغني أَن سعيد بن المسيب قال: خلاء بيت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ثلاثة أيام، لم يجمع فيه من حين كان: يوم قُتل عثمان، ويوم الحَرة، ويوم آخر قال مالك: أُنسيته.
قال محمد بن رشد: أما قتل عثمان رضي الله عنه وما وقع يوم قتله ممَّا أدى إلى الاشتغال عن إِقامة الصلاة في المسجد على العادة، فهو معروف، وأمَّا يوم الحَرة فإنه كان في خلافة يزيد بن معاوية سنة ثلاث وستين من الهجرة وذلك أَن أهل المدينة خلعوا طاعة يزيد بن معاوية، وكان القائم بذلك عبد الله بن حنظلة. وكان قد وفده أمير المدينة عثمان بن محمد إلى يزيد بن معاوية فيمن وفد إليه مع بنين ثمانية، فأعطاه مائة أَلف، وأعطى كل واحد من بنيه عشرة ألف درهم، سِوى كسوتهم وحملانهم، فلما قدم المدينة أتاه الناس فقالوا: ما وراءك؟ فقال: أَتيتكم من عند رجل والله لو.
لم أَجد إلاَّ بنيَّ هؤلاء، لجاهدته بهم، قالوا: سمعنا أَنَّه أجازك وأكرمك وأعطاك، فقال: قد فعل، ولكني ما قبلت ذلك منه، إِلّاَ أن أتقوَى به عليه، وحض الناس فبايعوه، ودعوا إلى الرضى والشورى، وأَمَّرُوا على قريش عبد الله بن مطيع العدوي وعلى الأنصار عبد الله بن حنظلة الغسيل وعلى قبائل المهاجرين معقل بن سنان الأشجعي، وأَخرجوا أمير المدينة ومن كان بها من بني أُمية، فبلع ذلك ابن عباس وهو بالطائف، فقال: أميران؟، هلك القوم. وكتب مروان إلى يزيد بالذي كان من أمر القوم، فأَمر بقُبة فضربت له خارجاً من قصره، وقطع البعوث على أَهل الشام، وولَّى عليهم مسلم بن عقبة، وبعث أَهل المدينة إلى كل ماء بينهم وبين أهل الشام، فصبوا فيها زقاً من قطران، وغوروه، فأرسل الله عليهم ماء السماء، فلم يستقوا بدلو حتى وردوا المدينة، فخرج إليهم أَهل المدينة بجموع كثيرة، وبهيئةٍ لم يُر مثلها فلمَّا رآهم أَهل الشام، هابوهم وكرهوا قتالهم فأمر مسلم بسريره، فوضع بين الصَّفين، ثم أَمر مناديه: قاتلوا عني ودعوا، فشدَّ الناس في قتالهم، وانهزم أهل المدينة وعبد الله بن حنظلة متسانداً إِلى بعض بنيه يغط نوماً، فنبَّهه ابنه، فلما فتح عينه، ورأى ما صًنع، أَمر أكبر بنيه، فتقدم حتى قتل، فلم يزل يقدمهم واحداً بعد واحد حتى أَتى القتل على جميعهم، فكسر هو جفن سيفه، وقاتل حتى قتل. ودخل مسلم بن عقبة المدينة، ودعا الناس إلى البيعة على أَنهم خَوَلٌ ليزيد ابن معاوية، يحكم في أَهليهم ودمائهم وأموالهم ما شاء، حتى أَتى يزيد بن عبد الله بن زمعة أَسيراً، وكان صديقاً ليزيد بن معاوية وصفيّاً له فقال: بايع على أَنك خَوَلٌ لأمير المؤمنين، يحكم في دمك وأَهلك ومالك، فقال أُبايعك على أني ابن عم أمير المؤمنين، يحكم في دمي وأَهلي، فقال: اضربوا عنقه، فوثب مروان فضمه إليه، فقال: يبايعك على ما أَحببت، فقال: والله ولا أقيلها إِيَّاه أبداً وقال: إن تنحا وإلّاَ فاقتلوهما جميعا. فتركه مروان وضربت عنق ابن زمعة. وقتل معقل بن سنان الأشجعي صبرا ومحمد بن أَبي حذيفة العدوي صبراً ومحمد بن أبي الجهم بن حذيفة العدوي صبراً. وانتهى عدد من مثل ذلك اليوم من قريش والأنصار ثلاثمائة رجل، وستة رجال. هذا كله على ما ذكره بعض المؤرخين والله أعلم بصحة ذلك. فهذه المحنة هي التي أوجبت ذلك اليوم خلاء مسجد النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ من التجميع كاليوم الذي قتل فيه عثمان. والله أسأله العصمة والغفران برحمته. وقد وقع في رسم مرض بعد هذا من قول ابن القاسم: إِنَّه سمع مالكاً يقول: قتل يوم الحرة سبعمائة رجل كلهم قد جمعوا القران. قال ابن القاسم: شككت أنه قال: كان فيهم أربعة أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
واليوم الثالث الذي ذكر مالك أَنَّه أنسيه. قال محمد بن عبد الحكم هو يوم خرج بها أَبو حمزة الخارجي وكان خروجه فيما ذكروا في خلافة مروان آخر خلفاء بني أُمية الذي خلفه أَبو العباس السفاح من بني العباس في سنة ثلاثين ومائة قال خليفة ابن خياط في تاريخه: سار أَبو حمزة في أول سنة ثلاثين ومائة. يريد المدينة، واستخلف على مكة إبراهيم بن الصباح الحميري، وجعل على مقدمته بلج بن عقبة السعدي، وخرج أهل المدينة فالتقوا بقُديدٍ يوم الخميس لتسعة خلون من صفر سنة ثلاثين ومائة، وبلج في ثلاثين ألف فارس، فقالوا لهم: طريقنا تأتي هؤلاء الذين بغوا علينا، وجاروا في الحكم، ولا تجعلوا أخذنا بكم، فإنَّا لا ندري قتالكم، فأبوا وقاتلوهم،، فانهزم أَهل المدينة، وجاءهم أبو حمزة فقال له علي بن الحصين: اتبع هؤلاء القوم، وأجهز على جريحهم، فإن لكل زمن حكماً والأثخان في هؤلاء أمثل. قال: ما أرى ذلك، وما أَرى أَن أُخالف من مضى قبل. ومضى أَبو حمزة إلى المدينة فدخلها يوم الاثنين لثلاث عشرة خلت من صفر، سنة ثلاثين ومائة. ففي يوم دخوله إياها والله أعلم خلا مسجد النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ من أن يجمع فيه وأصيب من قريش يومئذٍ ثلاثمائة رجل، ومن آل الزيبر، اثنا عشر رجلَاَ، فما سمع الناس بواكي أَوجع للقلوب من بواكي قديد، ما بقي بالمدينة أَهل بيت إلَّا وفيهم بكاء. وقالت نائحة تبكيهم:
ما للزَّمَانِ وَمَاليه ** أفْنى قُديدٌ رِجالِيهْ

فَلأَبْكِينَّ سرِيرةً ** وَلأبُكِينَّ عَلَانِيَهْ

.مسألة في تشميت العاطس:

وسُئل مالك عن العاطس إذا لم يحمد الله أَو لم يسمعه أَيَشمته؟ قال: لا يشمته حتى يسمعه يحمد الله. قيل له: فإنه ربما كانت الحلقة كثيرة الأهل فأَسمع القوم يشمتونه؟ قال: إِذا سمعت الذين يلونه يشمَتون فشمته.
قال الإمام القاضي: إِنما قال: إنه لا يشمته حتى يسمعه يحمد الله لما روي عن النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ من أنه قال: «إِذَا عَطَسَ أحَدُكُم فَلْيَقُلْ الْحَمْدُ لِلّهِ. وإذا قَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ فَلْيَقًلْ لَه، يَرْحَمُكَ اللهُ، فَإِذَا قِيلَ لَهُ ذَلِكَ فَلْيَقُلْ يَهْدِيكُم اللهُ وَيُصْلِحُ بَالَكُم». وروي عنه أنه قال: «إذا عَطَسَ أحَدُكُم فليحْمِدْ وَلْيَقُلْ لَهُ مَنْ عِنْدَهُ يَرْحَمُكَ اللهُ وَلْيَرُدَّ عَلَيْهِ يَغْفِرُ اللهُ لَنَا وَلَكُمْ». وقال مالك: إن شاء قال العاطس في الرد على من شمته: يغفر الله لنا ولكم، وإن شاء قال: يهديكم الله ويصلح بالَكم. وهو قول الشافعي أي ذلك قال فحسن، وقال أصحاب أبي حنيفة يقول: يغفر الله لنا ولكم، ولا يقول يهديكم الله ويصلح بالكم. وروي عن إبراهيم النخعي أنه قال: يهديكم اللهُ ويصلح بالكم. وهذا شيء قالته الخوارج لأنهم لا يستغفرون للناس. والصحيح ما ذهب إليه مالك من أنه يرد عليه بما شاء من ذلك إذ قد جاء عن النبي الأمران معاً. وقد اختار الطحاوي وعبد الوهاب وغيره، يهديكم الله ويصلح بالكم على قوله: يغفر الله لنا ولكم. لأن المغفرة لا تكون إلا من ذنب، والهداية قد تعري من الذنوب. والذي أقول به: إن قوله: يغفر الله لي ولكم أولى إذ لا يسلم أحد من مواقعة الذنوب، وصاحب الذنب محتاج إلى الغفران، لأنه إِن هدي فيما يستقبل ولم يغفر له ما تقدم من ذنوبه، بقيت التَبَاعات عليه فيها، وإن جمعهما جميعاً. فقال: يغفر الله لنا ولكم، ويهديكم ويصلح بالكم كان أحسن وأولى إلا في الذمي إذا عطس، ويحمد الله فلا يقال له: يرحمك الله، وإنما يقال له: يهديك الله ويصلح بالك، لأن اليهودي والنصراني لا تغفر له السيئات، حتى يؤمن. ومما يدل على هذا ما رُوي: مِنْ «أن الْيهودَ كَانُوا يَتَعَاطَسونَ عِنْدَ النَّبيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ رَجَاءَ أنْ يَقُولَ: يَرْحَمُكُم اللهُ، فَيَقُولُ: يَهْدِيكُمُ اللهُ وَيُصْلِحُ بَالَكُم.» واختلف في تشميت العاطس فقيل: هو واجب على كل من سمعه كرد السلام، وقيل هو ندب وإرشاد وليس بواجب. ولا اختلاف في أنه لا يجب تشميت العاطس إذا لم يحمد الله. وإنما أمر العاطس أن يحمد الله لما في العطاس من المنفعة ما لم يكن مضنوكاً على ما دل عليه قوله في الحديث: «إِنْ عَطَسَ فَشَمِّتْهُ، ثمَّ إِن عَطسَ فَشَمِّتْه، ثَمّ إن عَطِسَ فَشَمِّتْهُ ثم إِنْ عَطَسَ فَقل: إنك مضْنُوكٌ. وقال عَبْدُ اللهِ بْنُ أبي بَكْر: لاَ أدرِي أبَعْدَ الثّالِثَةِ أو الرابِعَةِ.» ويقال: تشميت، وتسميت، وقال الخليل تسميت العاطس لغة في تشميته. وقال ثعلب: التشميت معناه: أبعد الله عنك الشماتة، وجنبك ما يشمت به عليك. وأما التسميت فمعناه جعلك الله على سمت حسن وبالله التوفيق لا إلهَ إلا هو رب العرش العظيم.

.كتاب الجامع الثاني:

.قراءة الطالب على الراوي:

ومن كتاب أوله حلف أن لا يبيع سلعة سماها في العرض على العالم هل يقال فيه حدثنا؟
وسئل مالك فقيل له: أرأيت ما عرضنا عليك القول فيه حدثنا قال: نعم، قد يقول الرجل يقرأ على الرجل: أقرأني فلان وإنما قرأ عليه. ولقد قال ابن عباس: كنت أقرئ عبد الرحمن بن عوف، فقيل له: أفيعرضِ الرجل أحب إليك أم تحدثه؟ قال: بل يعرض إذا كان مثبتاَ في قراءته، وربما غلط الذي يحدث أو سها، إِن الذي يعرض أحب إلي وأعجب في ذلك.
قال محمد بن رشد: هذا معلوم من مذهب مالك، إِن قراءة الطالب على الراوي أصح له من قراءة الراوي عليه، لأن الطالب إذا كان هو القارئ فيها وغلط رد عليه الراوي بعلمه، مع حضور ذهنه أو من بحضرتّه، وإذا كان الراوي هو القارئ لم يرد عليه الطالب، إِما لجهله، وإِما لمهابته الشيخ، وإِما لأنه صادف موضع اختلاف، فيظن ذلك له مذهباً يحمله عنه. وروى ابن أبي أويس عنه أنه قال: السماع عندنا على ثلاثة أضرب: أولُها قراءةٌ على العالم، والثاني قراءة العالم عليك، والثالث أن يدفع العالم إليك كتاباً قد عرفه، فيقول: اروه عني. والذي عليه الجمهور أن قراءة الطالب على العالم مقدمة على قراءة العالم على الطالب، وروى علي وابن عباس أنهما قالا: قراءتك على العالم، كقراءة العالم عليك، وهو مذهب أهل المدينة قديماً وحديثاً، فهي ثلاثة أقوال. وأهل العراق لا يجيزون الرواية عن العالم حتى يكون هو القارئ وقد قال بعض الحفاظ: لا يختلف أهل الحديث في أن أصح مراتب السماع، قول العالم: سمعت فلاناً قال: سمعت فلانا، ولا فرق في حكم اللسان بين أن يقول سمعت فلاناً أو حدثني أو أخبرني، أو أنبأني أو خَبَّرني أو قال لي، أو ذكر لي، وإنما تفترق هذه الألفاظ عند المحدثين في استعمالها من جِهة العرف والعادة، لا من جِهة موضع اللسان. وروي عن ابن وهب أنه قال: يقال فيما هو قراءة عن العالم: أخبرنا وفيما هو سماع من لفظ العالم: حدثنا فكأنه أراد أن يعرف بهذا من حديثه، ما هو سماع عن الراوي مما هو قراءة عليه واختار ابن إسحاق بن رَاهويه وجماعة من أصحاب الحديث، أخبرنا في الوجهين جميعاً. وقالوا: أخبرنا أعم في التحديث من حدَّثنا. وهذه الألفاظ كلها في السماع من العالم حقيقة، وفي القراءة عليه مجازاً.
والحقيقة فيه أن يقول: قرأت على فلان، لأن العدول من الحقيقة إلى المجاز فيما لا يلتبس فيه المعنى جائز سائغ موجود في القرآن وفي السنن وفي الآثار. وساغ المجاز في هذا لما كان الحكم فيما هو سماع وفيما هو قراءة سواء من جهة أنه إذا قرأ على العالم فقد أقر به وأمره بنقله عنه، إذا سمعه منه، وكذلك الإِجازة، وإن كانت على مراتب، أعلاها المناولة، وأدناها أن يقول له: ما صح عندك من حديثي فارْوه عني من غير أن يعين له شيئاً يستوي مع السماع من العالم والقراءة عليه في إقراره وأمره بنقله عنه، فجاز أن يقول فيه: حدثنا وأخبرنا مجازاً ومن المحدثين من ذهب إلى أنه يقول في الِإجازة: أنبَأنا ليفرق في ذلك بين الِإجازة وبين السماع والقراءة.
وقد قيل إِنه يجوز لمن أتى إلى العالم بجزءٍ فسأله هل هو من حديثه؟ فأخذه فنظره، وقال له: نعم هو من حديثي: إِنه يجوز له أن يحدث به عنه وإِن لم يقل له حَدث به عني. وكذلك لو رآهُ ينظر في جزء، فقال له ما هذا الجزء؟ فقال: جزء من حديثي عن شيوخي فسرقه الطالب واستحسنه من غير علمه، لجاز له أن يحدث به عنه. ونظير هذا: أن يأتي الرجل بذكر حقّ إلى رجل، فيقول له: أتعرف هذا الصك؟ فيقول: نعم هو دين علي لم أؤده بعد، فإِنه يصح له أن يشهد بما فيه، وإِن لم يقل له: اشهد به على اختلاف في هذا في مذهبنا. وبالله التوفيق.